27‏/11‏/2008

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا ـ ج 6

محمّد حسن : جروح الثّورة والخيمة
ارتبط بالثّورة- الدّولة كما لم يرتبط فنّان من قبل ،وطاب له المقام هناك.وهو ما جعل تجربته الموسيقيّة غناء ولحنا فاترة في أسماع اللّيبيّين ،إلاّ قليلا.
لا شكّ أنّ محمّد حسن ملحّن ومطرب موهوب ،غزير الإنتاج ،لكنّه قيّد كلّ ذلك إلى وتد شديد الثّبات ،بالكاد سمح له بإظهار موهبته ،والإيغال في مساحات التّجديد والتّحديث.لقد أضاف للموسيقى اللّيبيّة الشّعبيّة كثيرا ،وبرزت في ألحانه خلفيّاتٌ أخّاذة بدت كأنّها بعد ثالث لأغانيه ،رغم وحدة الإيقاع الذي أصرّ عليه.
بدأ بروز محمّد حسن مع "ثورة الفاتح" حيث غنّى لها ،ولقيادتها بحماسة مفرطة ،أفقدته موقع الفنّان المستقلّ الذي كان من الممكن أن يتيح له خوض مغامرات التّجديد الدّائم ،ولم يكن اللّيبيّون ينتبهون لهذه الأغاني الجميلة واعتبروها تملّقا لثورة لم يفهموها ولم تفهمهم ،فاقترب كلاهما من الآخر مبتعدا عنه.
إنّ تجربة "النّجع" و"الخيمة" سمحت بجمع تراث جلّ المناطق والجهات في ليبيا (على خلاف ما حدث في النّوبة التّونسيّة) وقد استعان محمّد حسن بأجمل الأصوات العربيّة واللّيبيّة ليضمن النّجاح ،وللتّشويش على تلك الصّورة التي حملها اللّيبيّون عنه ،ولم يكن هناك مشكل في الكلمة في ما قدّمه ،فالشّعر الذي وظّفه محمّد حسن كان عظيما من أفواه وقلوب شعراء عظام.
وأحسّ هذا الفنّان قبل غيره بوصول تجربته إلى نهايتها ،وشعر بالعجز عن تطويرها،حتّى لقد صرّح أخيرا بملله ممّا فعل. إنّه مشروع موسيقار كبير رأى ،ذات يوم، أنّ عليه الالتصاق بتراثه موافقا بذلك رأيًا فكريّا "للقائد" بخصوص الفنّ ،فالتصق به حدّ الاختناق.
كان عليه ،بعد التّأسيس لأغنية شعبيّة راقية، خوض تجربة أعمق في التّأليف الموسيقيّ ،والاشتغال على نصوص أخرى وإيقاعات أخرى ، تحرّر موهبته الكبيرة ،فهو من طينة الكبار الذين استمرّوا في العطاء بحبّ شديد ،وبغزارة تلفت النّظر ،على عكس البعض من معاصريه شرقا وغربا أولئك الذين جفّت عطاءاتهم سريعا ، وتفرّغوا للظّهور هنا وهناك فارغي الوطاب ،يلهثون خلف قديم غيرهم يكرّرونه تحت مسمّيات غريبة ،حتّى مللناه ومللناهم.
لقد قدّم محمّد حسن للّيبيّين وللعرب أغانيه التّراثيّة بحرفيّة عالية ،وضمن جوّ موسيقيّ حالم مكثّف ،لكنّه لم ينفتح على العالم إلاّ بمقدار ما انفتحت الثّورة التي عاش يغنّيها


Free File Hosting at
BOXSTr.com

22‏/11‏/2008

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا ـ ج 5

بلقاسم بوقنّه : فرادة الشّعريّ / حين العمق بلا فنّ
ما الذي دفع بلقاسم بوقنّه إلى الغناء ؟ وما الذي دفعه إلى الغناء بذلك الشّكل ؟
سؤالان لطالما طرحتهما على نفسي لفهم ظاهرة هذا البدويّ الهادئ المحتفظ بعبق الماضي البعيد ،اللاّهث وراء الشّعريّ المنبثّ في عالم الصّحراء السّاحر.
سؤالان أحسب أنّ بلقاسم لم يرغب يومًا في مواجهتهما ،ممّا أدّى إلى " تبسيط بريء " لمسألة الغناء والموسيقى في تجربته...ومن الغريب حقّا أنّه عند اقتفاء طفولته وشبابه لا نجد للغناء في حياته مكانًا ،ولذلك أنهى دراسته الثّانويّة دون أن يفكّر في الالتحاق بمعهد للموسيقى ،والأغرب أنّ عازفيْه على آلتيْ العود والأورغ يجهلان الموسيقى أيضا،وأقصد المعنى الأكاديميّ.
إذن ما الذي جعل بلقاسم بوقنّه ينجح في شدّ الأسماع على الأقلّ في مناطق الجنوب ؟
إنّه الشّعر !
شعر ينبض بلغة حالمة ، يحكي مجاهيل المكان وقسوته ،ويفيض بالحبّ خجولاً متنقّبًا أحيانا ،ومندفعًا شهيًّا فاضحًـا أحيانا أخرى...شعر كان صاحبه يلقيه إنشادًا وشدوًا في الأعراس الضّاجّة بالصّمت والاستماع والغرائز...شعر حين قدّمه بوقنّه فوجئ به ،واستعصى عليه تناوله موسيقيّا ،فتركه للإنشاد الذي كان عليه في الأصل.
وكان ذلك سينجح إنّما بشرطيْن لم يرد بلقاسم تحقيقهما أبدا :
ـ أن يبحث عن معالجة موسيقيّة جدّيّة لما بين يديْه من شعر عظيم ومميّز ،فيطوّر تجربته ويوسّعها بالاستعانة برؤًى واشتغالات أخرى لموسيقيّين آخرين.
ـ أو أن يتوقّف (وأزعم أنّ الوقت فات) فلا يكرّر نماذجه اللّحنيّة الرّتيبة التي سيرتطم بها غناؤه ذات يوم أكيد.
وهو ما رفضه بلقاسم ،ليحتفظ لنفسه ولمستمعيه بصورة فنّان محتشم عصاميّ مكتفٍ بذاته بعيد عن بهرج النّجوم في عالم الفنّ ،وهي صورة قد " تسوّقه " برهة من الزّمن ليضيع بعد ذلك شعر عظيم ،وصوت جميل.

19‏/11‏/2008

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا ـ ج 4

النّوبة : جباية المهمّش / حين الفنّ بلا عمق
كانت النّوبة تجسيدا لشعار العودة إلى التّراث...وحين تحوّل الشّعار إلى تطبيقاته ،سمح ذلك للبعض بتحقيق الشّهرة والمال.
وكان من الغريب أنّ صاحب الفكرة في النّوبة لم يُعرف عنه اهتمام سابق بمسألة "الفنّ الشّعبيّ" ،وأحسب أنّه كان من أولئك الذين ينظرون إلى هذا الفنّ بازدراء ،مثله مثل النّخبة "الحضريّة" وقتها.
كانت فرصة للبروز بضجّة "موسيقيّة" عارمة ،أفضى عليها صاحبها لتبريرها "عودة وعي" فجائيّ ،ومسرحة لم تكن توازي بحجمها ذاك ضحالة العرض ،وتهافت محتواه.
فكرة بسيطة كان مطلقها قبل ذلك يقدّم نفسه ، بل ويعيش ، كأسطورة غائمة لا تنتج سوى الأفكار العظيمة ، ويربو بنفسه و"ذاته" وفنّه المسرحيّ عن الكلاسيكيّ والشّعبيّ والسّائد.
جَمعً لا متجانس من "العازفين" و"المطربين" خرج بعضهم للتـوّ من أزقّة الحواري وظلمتها ،ومن حفلات الأعراس في الأحياء البائسة ،وأُلقِي بهم في أتون عرض باهر غصّ به مسرحٌ ،أغلب الظّنّ أنّ من غنَّـوْا فوقه لا يسمعون بوجوده أصلا.
وبـدا كأنّ مصالحة قد تمّت مع التّراث ،في حين قد غُـيّب ما تبقّى منه في الجنوب خاصّة.
لقد أُعيد التّراث الغنائيّ الشّعبيّ لكنّه أعيد موحَّدا متجانسا ونمطيّا ،بالضّبط كما سبق تقديمه عن طريق هؤلاء في المسرح والسّينما أي جسدا مشوّها ،مليئا بالرّغبات المكبوتة والمختزلة ،باحثا عن نفسه في الآخر على ضفّة المتوسّط الشّماليّة.
(الحلقة القادمة : بوقنّه :حين العمق بلا فنّ)

16‏/11‏/2008

حس القطا : العمل الجديد لفرقة بلديّة دوز


أمام جمهور من العادة ألاّ يحضر بذلك العدد الغفير لمشاهدة عمل لفرقة "هاوية" عرضت فرقة بلديّة دوز للتّمثيل إنتاجها الجديد "حس القطا" على ركح دار الثّقافة "ابن رشيق بالعاصمة" يوم السّبت 15 نوفمبر 2008 في نصّ للكاتب إبراهيم بن عمر وإخراج لحافظ خليفة وبمشاركة الممثّلين عبد النّاصر عبد الدّائم وجلال عبيد أساسًا مع مجموعة شابّة مكرم السّنهوري وجهاد عبيد  ومحمّد بن علي...

ابراهيم بن عمر : الوجه الآخر

عرفته الفرقة بنمط من الكتابة المسرحيّة تميّز بلغة مكثّفة عالية ، وجرأة في الطّرح تسرّبت من خلال لغة جميلة شفّافة حرص كثيرا على أن تظلّ ملتصقة بلكنتها "المرزوقيّة" مع الاجتهاد في تنقيتها وإعلائها.
إنّ أعمالا مثل "خلّي عزاها قيرّه" و"عود رمّان" و"قارانتي" وغيرها تكشف عن مبدع حقيقيّ يشتغل على لغته طويلا ويحتمي بها فيكشف منها وفيها حنينه لطفولته ، ويقتنص في ظلّها صورا من بيئته قد لا تثير أحدا غيره لكنّه حين يقدّمها عملا فنّيّا يجد فيها المشاهد شيئا من ذاته وروحه.
في هذا العمل حافظت لغة ابراهيم بن عمر على تألّقها وألقها ، لكنّها ـ وهي تزيد نضجا معه ـ التحفت بسخريّة لذيذة بلغت تخوم الفرح بل وصلت إلى إضحاك شهيّ لم يثر استغرابي على أساس معرفتي الشخصيّة بما تنطوي عليه روحه من خفّة و"كوميديا " هي فعلا خاصّة به...وكلّ من يلازمه يعرف عنه ذلك.
هذه السّخرية التي أضحكت طويلا الجمهور الحاضر مساء السّبت كانت دافئة ولم تصل حدّ التّضاحك والمجانيّة.لقد قدّم لنا ابراهيم بن عمر شخوص المعرّي وابن القارح وأبي نواس والخنساء وبشّار وغيرهم في وجوه كوميديّة ذات دلالات عميقة على تنزيل المتعالي وتبسيط المركّب، هناك أفضت الذّات بتعابيرها ومفاهيمها الخاصّة في لغة ضاحكة لكنّها مكثّفة لم تبحث عن الإضحاك بل كانت هي نفسها تضحك ممّا ترى وممّا رأت.
حافظ بن خليفة : امتلاء الرّكح
يقول المخرج في المطويّة التي قدّمتها الفرقة لعملها أنّه اعتمد تقنية "الكوميديا دي لارتي" الإيطاليّة...لقد اعتمد فعلا نصّا وافرا مكّنه من توظيف هذه التّقنية بصورة ناجحة ، أثارت إعجاب المتفرّجين.
وشاهدت ركحا مؤثّثا فعلا دون فراغات في الصّورة التي ظهرت مكتملة ملأت المكان ،تحت إضاءة يندر أنّني شاهدت أكثر منها إثارة ومتعة ،إضاءة "بسيطة "لكنّها عميقة لا تسحب إليها الشّخوص بل تنسحب إليهم فتضيء من خلال حركتهم على الرّكح.
لقد نجح حافظ بن خليفة في أن يكسو عمله هدوءه الذّاتيّ المعروف ،وأن يبصمه بعلاماته هو فنّيّا ،وكان ذلك في ما أعتقد تحدّيا ربّما طرحه على نفسه حين اختار العمل مع فرقة دوز.بصمة بدت بارزة في حسن تأثيث ركحه وإدارة ممثّليه الذين تمكّن من تفجير طاقات لم أعهدها في البعض منهم.

عبد النّاصر عبد الدّائم : الجديد
عرفته منذ بدايته مع الفرقة...كان منصور بن فرج ـ والذي أحسب أنّه من أكبر الممثّلين التّونسيّين ـ "يسحق" بشخصيّته المميّزة كلّ من يقف أمامه أو يرافقه في التّمثيل ، ويغطّـي دون نيّة مبيّتة على كلّ الوجوه رغم قدرة البعض منها ومنهم عبد النّاصر عبد الدّائم... وكان يصعب مجاراة أدائه.كان ذلك رأيي ولازال...

في هذا العمل ألقيت المهمّة على عبد الدّايم ، وأظنّ أنّها كانت شديدة عليه في البداية ،وكانت شديدة عليّ شخصيّا حين علمت بها...فلم يكن أحد من أحبّاء الفرقة ومتابعيها ليحتمل فشل أيّ كان في عمل واحد حتّى ،لأنّ الفرقة حسّاسة جدّا في هذه المسألة وقد لاتحتمل أخطاءً.
لقد أبدع عبد النّاصر ،ونجح بشكل مثير في أن يكون هو نفسه ،وربحت المجموعة ممثّلا أعطاها طعما جديدا حين وثقت به وتكشّف هو عن طاقة كوميديّة مميّزة حقّا لا بدّ أنّه سعد بها هو قبلنا...

جلال عبيد : شكرا...شكرا






14‏/11‏/2008

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا ـ ج 3

برزت الدّولة الوطنيّة في تونس إثر الاستقلال حاملة لمشروع تحديثيّ واضح كان لا بدّ لإنجاحه من لملمة شتات الأطراف المهمّشة...وسوف يتمّ ذلك عبر تعميم نموذج موحّد ارتكز على توحيد التّعليم ، وإدخال المؤسّسة إلى قلب العالم البدويّ الذي راح يتهاوى تحت وطأة المؤسّسة ليكتسب بذلك روحًا جديدة نابضة بعصرها ، لكنّه أخذ يفقد تدريجيًّا سحره وغموضه وتراثه الخاصّ .

وكان للإذاعة ـ كما بيّنّا في الحديث عن ليبيا ـ دور كبير في نشر النّمط الحضريّ للغناء ، والذي كان يراكم تجربته بفضل جيل نما بين أزقّة "حواري اليهود" و"المالطيّة" ، هؤلاء الذين تحمّلوا "الإثم الموسيقيّ " وحملوه عن "المسلمين".

ودفعت النّخبة الحاكمة ـ سياسيّا وفكريّا ـ والتي كانت حضريّة في جملتها بهذا النّمط إلى الصّدارة ،وظلّت ترنو باستهزاء إلى غيره من الفنّ الشّعبيّ الذي حاول جاهدا التّشبّث ببقائه...بل وصل الأمر حدّ الحصار الإعلاميّ والمنع من البثّ إذاعيًّا وتلفزيونيًّا على أساس ضحالته وهزاله الفنّيّ.

وهكذا تمّ الاستيلاء على تمايزات الموروث الشّعبيّ في الجهات ،وتوحيده ضمن مؤسّسة عامّة هي "الفرقة القوميّة للفنون الشّعبيّة" التي أضحت فرعا تحت إدارة الفرقة الوطنيّة للموسيقى ،وأخذت تقدّم عروضا نمطيّة ضمن مشهد ساذج لم يتغيّر على مدى كلّ العقود.

وعندما حدث التّغيير السّياسيّ سنة 1987 انطلق المكبوت المغيّب ،وعادت الرّوح إلى التّراث وبدأ الاشتغال عليه لكنّ حبل الزّمن كان قد انقطع به ،ولا تراكم يبني عليه خصوصيّاته. ولذا ظهر ـ لأوّل مرّة ـ "فنّ شعبيّ" واحد من أحراج الجنوب ورماله إلى تخوم المياه الدّافئة شمالاً...فنّ يوظّف نفس الآلات الموسيقيّة ونفس الإيقاعات والموازين بل نفس المواضيع والهواجس الشّعريّة
(في الجزء القادم : ظاهرة النّوبة ـ تجربة بلقاسم بوقنّة...)

12‏/11‏/2008

دعـــوة للحضــور

تقــدّم فــرقـة بلـديّة دوز للمسـرح إنتــاجهـا الجــديــد :
حــــس القــــطا
علــى ركــح دار الثّقــافـة ابـن رشيــق ـ تــونــس وذلــك يــومــي السّبـت والأحــد 15 و 16 نــوفمبــر 2008
كمــا يلــي :
السّـاعـة السّـابعـة مســاءً (يـوم السّبـت)
السّـاعـة الخـامسـة مسـاءً (يوم الأحـد)
الـــرّجـاء التّفضّــل بالحضــور...مـع الشّكــر

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا ـ ج2

ظلّت القبائل في ليبيا محتفظة بـ"أمن ثقافيّ" لم ينل منه المركز السّياسيّ والاقتصاديّ المتخم بعائدات النّفط...وهذه "العزلة الثّقافيّة " سمحت ببقاء المادّة الفنّيّة الغنائيّة خاما ضاربا في عمق التّاريخ البدويّ لهذه القبائل بعيدًا عن حركة المركز ومغامراته العقائديّة واهتزازاته السّياسيّة خاصّة على أطراف الدّولة في الجنوب الملامس للزّنج حيث حمل الغناء الشّعبيّ نفحة إفريقيّة ، أو في الشّرق وعلى ساحله السّاحر حيث برزت أنماط موسيقيّة أخرى مميّزة وأصيلة كالمرسكاوي أو المرزقاوي.
أمّا في المركز فقد كانت الموسيقى الطرابلسيّة التي استفادت من إحداث الإذاعة والتّسجيلات وتطوّر أجهزة الصّوت لتنحو نحو التّجديد على مستوييْ اللّحن والشّعر الذي أضحى أقلّ توجّها وحرارة من شعر الأطراف البدويّ المثقل (والثّقيل) بالشّجن وامتدادات المكان الفسيح والحرمان من السّلطة ومتعها
.وأقدّم هنا مثالا لنمط من الغناء(العلم) قال لي بعض الأصدقاء اللّيبيّين أنّه فريد من نوعه ولا يوجد له مثال في العالم العربيّ كلّه ، ولكن عندما استمعت إليه وجدته قريبا جدّا من نمط من الغناء سمعته من أمّي وبعض قريباتي في دوز ، ولعلّ من يستمع إليه سيعرف أنّ ما قلته صحيح.

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا

تقديـم : كلّ دراسة ـ مهما ادّعت من موضوعيّة وحياد ـ هي في الواقع ذاتيّة . وهي ذاتيّة بقدر ما ينبثق فيها من اجتماعيّ وما يقودها من بيئة محيطة تسوسها وتوّجهها...فالذّات ليست مطلقا متعاليا فكيف إذا كانت الدّراسة مقارنة ؟ وكيف إذا كانت عن أجمل ما أضافته البشريّة إلى حقلها الجماليّ ؟
الأغنية الشعبيّة مرادفا للهامش الثّقافيّ : لم تستطع البنية الثّقافيّة الهشّة أصلا على الصّمود أمام المحاولة التّونسيّة الأولى لتوحيد السّوق و"دولنة" الثّقافة بما فيها ـ وخاصّة ـ الشّعبيّة ، فلقد تمّ توحيد النّمط الغنائيّ ـ مرورا بتوحيد تعليميّ غريب ـ ممّا أسفر عن مولود "شعبيّ" مسخ جسّدته "كونترا" ثقافيّة في حين مكّنت الثّروة النّفطيّة الوافرة حكّام ليبيا الحالمين بالثّورة العربيّة من مشاغل التّحديث والاهتمام بالآخر ،وفي ظلّ علاقات حكم تداخل فيها القبليّ والأسريّ استطاعت الجهات في ليبيا المحافظة على أصالة تراثيّة جيّاشة .
في حين قولبت الأغنية الشّعبيّة ـ حين جرى البحث عن تجديدها وإبرازها ـ في تونس ضمن رؤية "ساذجة وماكرة" ـ في إطار ذاتيّ محض.لجأ إلى السّائد والسّهل ممّا ساهم في بروز "الإيقاع" و"النّفخ" كصورة قابلة للتّسويق السّياحيّ فيما انسابت الأغنية الشّعبيّة اللّيبيّة مراكمة تراثها الفذّ غير عابئة بالآخر الذي بحثت عنه مثيلتها التّونسيّة.
ولذا تمكّنت من الاحتفاظ بسماتها في حين فقدت الأولى إمكانيّة تجاوز نفسها بعد أن نسجت قوالب انتهت في الأخير إلى موتها زمنيّا وإن كانت قد استمرّت حضوريّا ولكن دون أن تتطوّر.
وكمثال أقدّم هذه الأغنية التي تنتمي لنمط من الغناء في حضر ليبا يسمّى 'المرسكاوي" وهو عبارة عن وصلة مطوّلة تبدأ بموّال ثمّ اللاّزمة وينتهي بما يسمّى "التبرويلة " وهي الخاتمة بإيقاع سريع.
الأغنية الأولى : قالولها راجل عدو ويجيكم....قالتلهم بالسّيف غصب عليكم
والأغنية الثّانية : ما بي مرض غير فضية جيوبي....وكثرة عيوبي...نعتب على الأصحاب ما يندروا بي
والأغنية الثّالثة : أنا والزّمان مقالبه...على اللّه نصبح غالبه.

05‏/11‏/2008

العرب والخمرة (3)

ويواصل الرّقيق القيروانيّ طرح الإشكال " بدم بارد " معتمدا ما اعتمده سابقوه ممّن ظنّوا أنّهم استوفوا تقعيد الفقه وأغلقوا باب كلّ اجتهاد ووضعوا القفل في جيوب عباءاتهم أي الرّواية إظهارا وتورية .
يقول في تفريق العرب ـ لغة ـ بين الخمر والنّبيذ :
قال القلمس :
أروي بها نفسي فتحيا بشربها ولا أشتهي شرب النّبيذ من التّمر
عنى بشربها الخمرة.
كما يستشهد بسوادة بن الصّامت وأبي الأسود الدّؤليّ ليصرّح :
فهؤلاء فصحاء العرب ، فرّقوا بين عصير العنب وغيره فسمّوه خمرا دون سائر الأشربة ، وقد أجمعوا أنّ قليل الخمر وكثيره حرام ، وأكثرهم يشرب ما دون السّكر من سائر الأشربة لأنّها لا تعرف عندهم بخمر ، ولو كانت خمرا لكان القليل منها حراما ، وقد رووا عن ابن عبّاس عن النّبي (ص) أنّه قال : حُرّمت الخمر بعينها والسّكر من كلّ شراب... فإن قال قائل : قد روينا عن جماعة من أصحاب رسول اللّه (ص) منهم عمر (ض) أنّهم قالوا : إنّ الخمر من الزّبيب والتّمر والعسل والحنطة والشّعير والذرة وأنّ الخمر ما خامر العقل ، وما روي عن أنس أنّه كان يسقي عمومته من الأنصار حتّى دخل عليهم داخل فقال : إن الخمر قد حرّمت فأمروه بإراقتها ولم يكن خمرهم يومئذ إلاّ الفضيح. وما شابه ذلك من الأخبار قيل له إنّ هذه أخبار آحاد لا يثبت بها أن يطبقوا على تحريم سائر الأشربة الشّديدة لوجود اسم الخمر لها عندهم ، فلمّا لم يجمع المسلمون ولا اشتهرت عن العرب وجب بطلان ما ادّعاه من سمّى هذه الأشربة خمرا إذ كانت الأسماء لا تؤخذ بالقياس.
وقد صحّ بالأخبار المتواترة أنّ نبيذ التّمر كان فاشيا بالمدينة يشربه أهلها غنيّهم وفقيرهم ويجري عندهم مجرى أقواتهم ، فلولا أنّه أراد إطلاق الأشربة لهم لنصّ عليه كما نصّ على الخمر لأنّ النّصّ عليه أولى لشهرته وكثرة متناوليه ولقلّة الخمر ، فإنّها لا تكاد توجد عندهم.
ثمّ يردّ القيروانيّ على من أخذ الأحاديث على ظواهرها ، كحديث (ص) كلّ مسكر حرام ، فيقول :
اللّبن الرّائب يسكر كثيره...وليس أحد من المسلمين يسمّي اللّبن خمرا.والبنج يسكر والنّوم يسكر، وإذا جاز أن تخرج هذه الأشياء من جملة قوله : كلّ مسكر حرام ، جاز أن تخرج سائر الأشربة الشّديدة التي من عصير العنب من جملة الخمر.
...يتبع...