برزت الدّولة الوطنيّة في تونس إثر الاستقلال حاملة لمشروع تحديثيّ واضح كان لا بدّ لإنجاحه من لملمة شتات الأطراف المهمّشة...وسوف يتمّ ذلك عبر تعميم نموذج موحّد ارتكز على توحيد التّعليم ، وإدخال المؤسّسة إلى قلب العالم البدويّ الذي راح يتهاوى تحت وطأة المؤسّسة ليكتسب بذلك روحًا جديدة نابضة بعصرها ، لكنّه أخذ يفقد تدريجيًّا سحره وغموضه وتراثه الخاصّ .
وكان للإذاعة ـ كما بيّنّا في الحديث عن ليبيا ـ دور كبير في نشر النّمط الحضريّ للغناء ، والذي كان يراكم تجربته بفضل جيل نما بين أزقّة "حواري اليهود" و"المالطيّة" ، هؤلاء الذين تحمّلوا "الإثم الموسيقيّ " وحملوه عن "المسلمين".
ودفعت النّخبة الحاكمة ـ سياسيّا وفكريّا ـ والتي كانت حضريّة في جملتها بهذا النّمط إلى الصّدارة ،وظلّت ترنو باستهزاء إلى غيره من الفنّ الشّعبيّ الذي حاول جاهدا التّشبّث ببقائه...بل وصل الأمر حدّ الحصار الإعلاميّ والمنع من البثّ إذاعيًّا وتلفزيونيًّا على أساس ضحالته وهزاله الفنّيّ.
وهكذا تمّ الاستيلاء على تمايزات الموروث الشّعبيّ في الجهات ،وتوحيده ضمن مؤسّسة عامّة هي "الفرقة القوميّة للفنون الشّعبيّة" التي أضحت فرعا تحت إدارة الفرقة الوطنيّة للموسيقى ،وأخذت تقدّم عروضا نمطيّة ضمن مشهد ساذج لم يتغيّر على مدى كلّ العقود.
وعندما حدث التّغيير السّياسيّ سنة 1987 انطلق المكبوت المغيّب ،وعادت الرّوح إلى التّراث وبدأ الاشتغال عليه لكنّ حبل الزّمن كان قد انقطع به ،ولا تراكم يبني عليه خصوصيّاته. ولذا ظهر ـ لأوّل مرّة ـ "فنّ شعبيّ" واحد من أحراج الجنوب ورماله إلى تخوم المياه الدّافئة شمالاً...فنّ يوظّف نفس الآلات الموسيقيّة ونفس الإيقاعات والموازين بل نفس المواضيع والهواجس الشّعريّة
(في الجزء القادم : ظاهرة النّوبة ـ تجربة بلقاسم بوقنّة...)