لا تكاد تخلو حياة شاعر عظيم من غربة حادّة ، غربة في المكان تحيله إلى رحّالة مبعد ، وغربة في الرّوح تفضي به إلى وحدة جارحة.
وإن كان المتنبّي مثالا لما نقول فإنّ مظفّر النّوّاب سليل المنافي والغربة بامتياز...لقد عاش متنقّلا بين عواصم العالم وقارّاته : من بيروت إلى دمشق إلى اليونان وفرنسا والهند وبانكوك والجزائر وليبيا وفنزويلاّ والبرازيل والتشيلي والسّودان...والقائمة تطول.
هذا التّرحال المستمرّ شحن قصائده بحزن عميق أخّاذ وغربة كتب من حدّتها أجمل قصائده ،ففي قصيد "قراءة في دفتر المطر" يصرخ مظفّرفي وجه الوطن :
" نحن الإثنان بلا وطـنٍ يا وطني !"
كما يصرخ في وجه الأهل والنّاس :
" حقّرتم حزني
المبغى في ليل مدينتكم أكثر تسلية من حزني
القبر بليل مدينتكم أكثر أفراحًا منّي
وأنا من أقصى الحزن أتيت
أبشّـر بالإنسان "
ثـمّ يتوجّه نحو المطلق بلغة غنائيّة عاتبة :
" لا تتـركْني !
فالشّـكّ سيقتل فيّ الإنسان !
لا تتـركني !
أفلسـتَ المنقـذَ ؟
أفلسـتَ رفيقَ المتّسخين ؟ "
وفي قصيدته "جـزر الملـح" يصبح الشّاعر بحّارا قديما ، ويستعمل ضمير المخاطب ليرسم نفسه في لحظات الغربة ضعيفا متهالكا :
" أَرسِ المركبَ يا ولـدَ البحـرِ !
كبـرتَ علـى الـرّحلاتِ
وصارت عينـاكَ تنـزّان دمـوعًـا
حيث تحـدّق في الـزّمن الآتـي
وتـرعش كفّـاكَ الحاضنتان لعـود الكبـريتِ
وأنتَ تضـيء سـراجَ القمْـرةِ "
ويحكي ثمـلا بالكون وحدته الكبرى :
" أنـتَ قفـزتَ وحيـدًا في الجبل العلـويّ
ومكتشفًـا وحـدتَكَ القصـوى "
وحين يلـوم الـذّات يخاطبها مباشرة :
" فـاسدةٌ هـذي البيضـةُ...
فاسـدةٌ يا ولـدِي لا يخرج منها عصفـورٌ !
فلمـاذا تحمل عـشَّ البيـضِ الفاسـدِ
في دَوْحـةِ كفّيْـك حـريصًـا ؟
أَلْـقِ العـشَّ إلـى البحـر
تحـرّرْ أنّـكَ ملتصـقٌ بـالبـرِّ !"
لقد بلغ الشّاعر هنا أقصى الـرّؤيا وأقصى الحـدوس :
" أغمضْـتُ
وفي رأسي نهـدٌ
والـرّأسُ لقد فـرّ مع الطّيـرِ صبـاحًـا "
...يتبع...
من أنا
07/10/2008
مظفّـر النّـوّاب : شاعـرا ومنـاضلا
الجـزء 5
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)