إنّ مظفّر النّوّاب لا يكتب باللّغة بل يرسم بها حقّا حتّى لكأنّ قارئه يتأمّل فضاءات لوحة خالدة...انظروا معي هنا كيف تضوع الرّائحة ،ويتصاعد الدّخان وتتواثب الوطاويط :
" أطلـق فـلاّحٌ في أقصـى الحِنطـةِ نـارًا
فـانقضّـتْ كـلُّ وطـاويطِ الشّـاهِ هنـاك "
إنّ مظفّـر النّـوّاب لا يهـوّم لغته ،ولا يرهقها بما يفسد مزاجها من غموض قسريّ وتكثيف متهافت ،وهو واضح في موقفه هذا وكثير التّصريح به.فعن سؤال طرحه عليه اسماعيل زاير عن رأيه في شعر الحداثة أجاب مظفّر : " هناك من يتحدّث عن تفجير اللّغة...لا يوجد مثل هذا المصطلح...هذا ضحك على الذّقون...هناك تطوير للّغة وتعامل معها بمحبّة وودّ ولتكون قريبة وصديقة ".
فحين يصل القارئ إلى هذا المشهد من القصيدة ( وتريّات ليليّة ـ الحركة الثّانية ) فإنّه يشعر بالغثيان من جرّاء صور التّعذيب الذي مارسه "السّافاك" الإيرانيّ على جسد الشّاعر وروحه :
" وقفتُ أمامَ الجلاّدِ
بصقـتُ عليه من الأنفِ إلى القدميْن
فدُقّتْ رأسي ثانيةً بالأرض
وجـيء بكرسيٍّ حُفِـرتْ هـوّةُ رعـبٍ فيه
ومُـزّقت الأثـوابُ عليّ
ابتسم الجلاّدُ كأنّ عناكبَ قد هربتْ
أمسكني من كتفيّ وقال :
على هذا الكرسيّ خصيْنا بضعَ رفاقٍ فـاعترفِ الآن !"
وفي تلك اللّحظات المؤلمة تتراءى الشّخوص والأطياف من وعي الشّاعر ومن لاوعيه ، يستحضرها وتحضر لتشدّ من عزمه حتّى لا ينهـار :
" كان أبـو ذرّ خلف زجاج الشّبّاك المقفل
يزرع فيّ شجاعته...فرفضتُ
وكانت أمّي واقفةً قـدّامَ الشّعبِ بصمتٍ...فرفضتُ "
لقد طُلب من الشّاعر أن يتعهّد بأن لا يتسلّل ثانية للأهواز ، فهم كانوا يجهلون هويّته...فأجاب :
" للشّـاعرِ الـفُ جـوازٍ في الشّعـرِ
وألفُ جـوازٍ أن يتسلّـلَ للأهـواز ،،،
يـا قلبيَ ! عشـقُ الأرضِ جـواز "
...يتبع...