خرجتُ ، ورغبة السهر تشتدّ بي ،، فالقاهرة مدينة لا تنام...وأنا أعشق ليلها ،وأهلها ، وضجيجها الرّائع...
ـ على فين يا باشا ؟
ـ إلى أيّ مكان أحتفل فيه بلقاء مع شخص ظللت أحلم به طويلا..
ـ يا بختو...ربّنا يخلّيكو البعض...سبني أختارلك حتّه على ذوقي !
كم يبدو قصيرا ليل القاهرة ! أنتِ أيّتها الجميلة المغتسلة بماء النّيل ! لكم تزهر روحي وتمتلئ رئتاي عشقا حين أمشي على أرصفتكِ العابقة بالأبخرة والشّذى...ولكم يهزّني صوت "السّت" منسابا من مقاهيك الدّافئة...كلّ شيء له طعم آخر في القاهرة...حتّى الأغاني الرّاقصة تمسي نغما من الفرح العذب...
لم أشعر بمرور الوقت...كانت السّاعة الخامسة صباحا حين دخلت الشقّة...لذلك كنت أشعر بضيق شديد وأنا أقف أمام باب بيت "مولانا" قريبا من منتصف النّهار...انتبهت إلى ما كتب على الباب : الشّيخ إمام عيسى الملحّن !
سمعت ضجّة بالدّاخل...لقد تأخّرت جدّا ، ويبدو أنّ لمولانا ضيوفا...تردّدت ثمّ قرعت الباب...
ـ أهلا ! إنت محمّد التّونسي ؟
ـ نعم ، يا آنسة.
ـ اتفضّل خالي مستنّيك من بدري !
والحقّ أنّ الفتاة جميلة جدّا...وعندما دخلت البهو ، كانت امرأة وفتاة أخرى تنظّفان المكان...اتّجهت نحو غرفة "مولانا"...وجدته مستلقيا على السّرير ، وعلى شفتيْه تلك الابتسامة السّاحرة...بادرني معاتبا وهو يضحك :
ـ كده يا واد ؟ ده أنا صحيت بدري عشانك
قاطعته :
ـ عذرا يا "مولانا" لم أستطع منع نفسي من السّهر...عندك ضيوف ؟
ـ دي أختي وبناتها ييجو كل يوم جمعة عشان يوضّبوا البيت...تعال اقعد !
تحدّثنا عن "الفنّ الملتزم" في تونس...وتحدّث "مولانا" عن أسماء بعينها ،،وأبدى اعجابه باسم بعينه...وأخبرني أنّ أحد هؤلاء قال له أثناء زيارته مع "نجم" إلى فرنسا أنّه يعرف "مسؤولا كبيرا" (في العهد السّابق) وأنّه سيكلّمه لإدخال "مولانا" إلى تونس...لكنّ "مولانا" رفض الفكرة بشدّة ، وأخبر هذا الفنّان بأنّه لن يقبل سوى دعوة الشّعب التّونسي...وقد تمّ ذلك لاحقا...
وأفضى إليّ "مولانا" بحرقة أنّ كثيرا من عائدات حفلاته في تونس بقيت عند أحدهم هناك ، على أساس أنّه سيتمّ تحويلها إلى دولارات وإرسالها إليه على حساب أحد الموظّفين في الجامعة العربيّة...ولم يصله ملّيم واحد !
شعرت بشيء من الضّيق ،حاولت أن أطرده يطلب أغنية...
ـ بس من غير عود يا محمّد...القلب تعبان والطّبيب مانعني...عاوز تسمع إيه ؟
ـ اللّي تحب يا مولانا .
وادْ يـا عبد الـودودْ
يا رابض عالحـدودْ
ومحافظ عاللّظام
كيفك يا واد ؟ صحيحْ ؟
عسى اللّه تكون مليحْ
وراقبْ للأمــامْ.....
وقـد عرفتُ أنّ هذه من أحبّ أغانيه إلى قلبه.....