21‏/06‏/2010

الأغنية "الشّعبيّة" في ليبيا بين الاحتفاء الشّعبيّ والسّخرية الإعلاميّة ـ فوزي المزداوي مثالا

توطئة :

في دراسة سابقة ، تعرّضت إلى أوجه الشّبه والتّمايز للأغنية الشّعبيّة في كلّ من تونس وليبيا ، وقدّمت أساسًا لدراستي أنموذجين من التّجارب الغنائيّة : محمّد حسن وبلقاسم بوقنّه ، حيث انتهيت إلى أنّ كلاّ من التّجربتيْن شهدتا وتشهدان أفولاً لا يخفى علينا ـ وإن كان بطيئا بحكم البطء العامّ لحركة المجتمع الحضاريّة عموما ـ وأزمة ـ وإن كانت خفيّة ـ تربك مسيرتيْهما بسبب عدم القدرة على التجدّد والتّجديد ، بالرّغم عن حجم تجربة محمّد حسن مقارنة بتجربة بوقنّه.

وقد ارتأيت في هذا الجزء الثّاني من الدّراسة الولوج أكثر في المسألة ( أقصد الأغنية الشّعبيّة ولو أنّ لنا رأيا في التّسمية ) ، وتلمّس تفاصيلها بالاقتراب منها وتفكيك ما اُلتبس من مساراتها ، وطرح الأسئلة حول أسباب انتشارها الشعبيّ ، وأيضا ـ خاصّة ـ حول اغترابها في المؤسّسة الإعلاميّة الرّسميّة في ليبيا.

لمـاذا فوزي المزداوي :

استقرّ رأيي أخيرا على اختيار هذا الفنّان لأسباب عديدة أظنّها مقنعة لي ، ليس من بينها ـ كما أزعم ـ العلاقة الشّخصيّة .

ففوزي المزداوي يحظى بشهرة ساحقة عند جمهور النّاس في كامل ليبيا ، وخاصّة في طرابلس مقرّ سكناه ونشاطه ،حيث يتهافت اللّيبيّون عليه لإحياء حفلاتهم الخاصّة ويدفعون لحضوره أثمانا هي الأعلى بلا منازع ، ممّا جعله يجني أموالا طائلة هي مقابل عادل لما يضيفه من فرح على الفرح ، وما يمثّله حضوره من دلالات الحظوة والشّهرة اللّتي تطال الأسرة بكاملها ، وما تجنيه ألبوماته وأشرطته من مبيعات غير مسبوقة.

أمّا فنّيّا ، فالمزداوي يجمع صفات قلّما اجتمعت لدى شابّ فنّان مثله...هو عازف من طراز عال لآلات عديدة كالأكرديون والعود والأورغ والطّبلة ، كما أنّه يمتلك صوتا نفيسا جميلا ومعبّرا مكّنه من أداء أغانيه بشكل أدهش حتى معارضي فنّه "الشّعبي" .وقد برع في الموّال الذي يحرص على أن يكون حاضرا دوما في مفتتح حفلاته أو وصلاته كما تُعرف في "المرسكاوي" ، وهو ينتقل بين أنماط الموّال جميعا من الشرقيّ الكلاسيكيّ إلى اللّيبيّ العريق والعتيق (العلم مثلا) بسلاسة مدهشة وتمكّن نادر ، يذكّرك بصوت أطرب العرب منذ طفولته ، هو صوت "جورج وسوف" في أعلى قدرته ، وفي أسمى عنفوانه.

وعلى مستوى التّجـديد وتنويع التجربة والبحث عن آفاق أخرى لها ، فقد جاب المزداوي آفاقا عديدة ...لقد انتقل ومازج بين أشكال متنوّعة من الموسيقى ، فأدّى "الرّيقي" في ألبوم "محبوبة قلبي " ، وأدّى ما أصطلح على تسميته بموسيقى الجيل كما في ألبومه " حبّي الأوّل" .، وقدّم الموسيقى الحديثة (التسمية التي يطلقها "أرثوذكس" الإذاعة والتّلفزيون في ليبيا كما سنرى لاحقا) في ألبوم "بنسامحك هالمرّه" ، إضافة طبعا إلى "المرسكاوي" الذي يعتبره اللّيبيّون ملِكا له ، والذي قدّم فيه معظم إنتاجه وأشهره.

الوصـاية على الفنّ / الأرثوذكس :

ما الذي يمنع فوزي المزداوي من الوصول إلى جمهوره الواسع عبر وسائل الإعلام الرّسميّة رغم كلّ ما تتمتّع به تجربته الغنائيّة من ثراء وتفرّد كما بيّنّا آنفا ؟

من يضع "فيتو" صارما على ظهوره فيها ؟ وما أسباب هذا الحظر العنيف والرّفض القاطع للأغنية "الشعبيّة" في ليبيا من قبل مؤسّسات تقبض بيد من حديد على وسائل الإعلام رغم شعار : إنّ الشّعوب لا تنسجم إلاّ مع تراثها وفنونها ؟ ولمَ يتمتّع البعض بكلّ أضواء الشّهرة التي يوفّرها التّلفزيون والإذاعة بينما يُسدل ستار التّجاهل والتّعامي والتّعالي والاحتقار على مبدعين حقيقيّين وهبوا حياتهم لفنّهم ؟

أسئلة ـ وغيرها ـ حاولنا الغوص عميقا لتفكيك شفرات إجاباتها عبر مواجهة المبرّرات المطروحة ، لفكّ عقدها ، والوصول إلى ما ورائها من تهافت ودحضه ، أو من مقنعات وتثبيتها.

نشير في البداية إلى أنّ الأغنية "الشّعبيّة" في ليبيا ـ كما في كثير من البلد العربيّة ـ قد نشأت من خلال الشّعر، حيث أنّ الشاعر حين يصوغ قصيدته ، فإنّه يتمثّل لها "لحنا" ينشدها أو يؤدّيها على أساسه.

من هنا يقول المعارضون الأوصياء أنّ أوزان الشّعر العاميّ هي نفسها تقريبا ألحان الأغنية الشّعبيّة.ومن هنا يتمّ تجاهل التّأليف الموسيقيّ ودور الملحّن فيها ، فهي مجموعة قليلة العدد من القوالب اللّحنيّة الجاهزة ،أو هكذا فهمها المشتغلون بهذا النّوع من الغناء ،فأغفلوا دور الملحّن ،وانكفؤوا على هذه القوالب "يصبّون" فيها ما يختارونه من نصوص شعريّة يغنّونها ،دون أيّة محاولة للتّجديد أو الخلق الفنّيّ ، رغم أنّ الذين سبقوا بهذه الجمل اللّحنيّة كانوا شعراء وليسوا ملحّنين.

هذا مأخذ أوّل يقدّمه رافضو الأغنية الشّعبيّة : ليس هناك تأليف موسيقيّ تعبيريّ في هذه الأغنية بل مجرّد قوالب جامدة وساذجة وقعت صياغتها منذ عشرات الّسنين ،وظلّت دون تطوير أو فعل فنّيّ يستحقّ الذّكر.

ونحن إذ نوافقهم في هذا النّقد السّليم ،وفي هذا "العتاب" على الأغنية الشّعبيّة التي لم يطوّر أصحابها أيّ معنى للتأليف الموسيقيّ فيها ، فإنّنا نسأل عن مدى براءة هذا الموقف... فنقول لمَ تُـقدّم أغان شعبيّة بعينها أقلّ احترافا في مستوى التّوزيع والأداء، عبر الإذاعة والتّلفزيون مرارا وتكرارا ؟ أليس لحضور السّياسيّ فيها وتغنّيها بالأمجاد ؟؟ ونحن لا ننزع هذا الحقّ عن مؤسّسات تملكها الدّولة ، إنّما نستكشف ما وراء مبرّراتها من لا واقعيّة وغموض...نقول هذا فقط ، وننأى عن التّفاصيل ، فهدفنا هو تتبّع تناسق مبرّرات الرّفض لا المسألة السّياسيّة ، بالرّغم من إيماننا بسعة صدر الإخوة في ليبيا اليوم بالرّأي المخالف حتّى وإن كان سياسيّا ، بفعل التّحوّلات العميقة التي تشقّ المجتمع في كلّ الاتّجاهات ، وهو مسار يسعدنا كثيرا.

المبرّر الثّاني لرفض عودة الأغنية الشّعبيّة إلى أحضان الإعلام ، يدور حول مسألة مهمّة أيضا على علاقة وثيقة بالمبرّر الأوّل الذي ذكرناه سابقا ، هي مسألة الكلمة المغنّاة...فبعض النّقّاد يرون أنّ الشّعر المليء بالكنايات والتّشبيهات وأصناف البديع ـ أي كما خرج من عقل الشّاعر ـ لا يساعد الملحّن على التّأليف الموسيقيّ ، كما أنّه ليس ضروريّا لنأتي بأغنية جميلة ، فيكفي من الكلمات أن تكون مفهومة وليس فيها إسفاف.

لذلك يرون ـ وهم على حقّ تماما ـ أنّ كلمات الأغنية تستلزم "مولّفا للمعاني له دراية ما بالجملة الموسيقيّة، لا شاعرا فقط" ـ (النّاقد زياد العيساوي).

وهذا رأي أكثر رجاحة وسدادا من الأوّل ، وهو نظرة عميقة وواعية لكتابة الأغنية لم تقـدر الأغنية الشّعبيّة فعلا على تمثّله واستيعابه لا في ليبيا ولا في تونس كما يبدو لنا...ونحن نرى أنّ القصيدة الشّعبيّة بنمطها الحالي المتوارث تشكّل عائقا كبيرا أمام تطوير أغنيتها وتحديثها في مستويات اللّحن والتأليف الموسيقيّ ، ولنا في تجارب أخرى (سنعود إليها لاحقا) أمثلة على ثورات حقيقيّة حدثت للأغنية الشعبيّة مباشرة بعد تحرير بعض الشّعراء الروّاد قصائدهم العاميّة من عوالمها الهزيلة القابعة على هامش التّاريخ والانسان والمقيّدة إلى وحل التّجربة الأولى كما أسّس لها المبدعون الأوائل.

ولكن ، مرّة أخرى ، نسأل عن مدى تمسّك "المحافظين" بحرفيّة هذا الرّأي ، ونستغرب من "تسرّب" عديد الأغاني إلى الإذاعات المرئيّة والمسموعة بتلك النّصوص الشّعريّة ذاتها ، تلك التي ساندنا الرؤية النّقديّة في عجزها على إثارة الحداثة الموسيقيّة..ومرّة أخرى نسأل عن مدى براءة هذا الموقف ،ونصمت صمتا يدفع بسؤالنا بعيدا.

فهل كُتب على فنّاني ليبيا الشّعبيّين العيش في الظّلمة ؟ وهل يمنع فوزي المزداوي حتّى من الذّكر أو حتّى من خبر صغير عن حالته ؟ فوزي الذي تعشقه الملايين وتحقّق ألبوماته مبيعات خياليّة ،وتتودّد إليه فئات رفيعة في المجتمع اللّيبيّ ؟

نطرح أسئلتنا ، وندعو كلّ الأصدقاء في ليبيا لفكّ العقال عن أعمال فوزي وتمكين النقّاد والجمهور من معانقتها والاستمتاع بها ، لعلّ ذلك يدفع به إلى تطوير أغنيته وتحديثها مثلما نرجو جميعا.

محمّد الخامس ـ جوان 2010