07‏/11‏/2009

مسرحيّة "زرّيعة إبليس" : ترانيم الرّوح الجريحة ـ أفق النصّ



على رقعة شطرنج غطّت الرّكح ، جاهد المخرج الشّابّ حافظ خليفة لقيادة كتيبته المدجّجة ، على وقع نصّ هائل ، وتحت مؤثّرات مشهديّة مخادعة ، لينشر على الحضور شيئا من أعماقه وأعماق كاتبه ، مساء ذلك اليوم الخريفيّ 4 / 11 / 2009 بدار الثّقافة "ابن رشيق" .

النصّ المؤسّس / خطوط الوجد والذّكريات :

ما من مرّة قرأت فيها ـ أو شاهدت ـ نصّا لإبراهيم بن عمر إلاّ وأحالني إلى طفولة فكريّة مدهشة...تماما مثلما يصنع كبار الكتّاب والفنّانين...تلك كانت أسراره الصّغيرة في الكتابة والتي مكّنت نصوصه من رائحة خاصّة،ودفء خاصّ،ودفع للرّوح صوب جذورها الأولى بعيدا عن قيود المكان وعقده.

أعرف أنّ إبراهيم بن عمر لا يخطّط لنصوصه...بل يكتبها بطفولة نادرة مستمتعا بمعانقة صباه وبلغة لا يتكلّم بها ،ولا يدرك ـ هو نفسه ـ مأتاها...حتّى ـ وهو يقرأ "جان جيني" ـ كنتُ أدرك أنّه لن يُؤسر بقيد الاسم ...وأنّه سيسحب "جان جيني" من شهرته ليكتب به ـ كما كان في الواقع ـ تاريخ المثليين والعاهرات والخدم والمستغَلّين بلغة أحسب أنّ "جان جيني" تكلّمها جهرا وسرّا.

وقد كان كذلك ،وقدّم إبراهيم للحافظ بن خليفة نصّا طفوليّا هائلا ،ملتبسا ومتأرجحا بين بساطة غريبة وكثافة أغرب ،وعاريا ومقنّعا ،ومحتشما وجريئا حدّ الصّفع.

الإخراج المعاند / خطوط الذّات والمتلقّي :

أجزم أنْ لو تُرك الحافظ خليفة على سجيّته لكان أخرج نصّ كاتبه بجنون لن يطيقه أحد...إنّه مخرج لديه حساسيّة غريبة للكلمة والنصّ...ولقد نزل على الأرض ليقف على قدميْه حين قرّر تقديم مسرحيّة للنّاس عنوانها "زرّيعة إبليس"...حينها لم يترك للنصّ مجالا للنّفوذ بل عانقه ليؤنسه و"يدجّنه" للمتلقّي...كانت أساليب المخرج حافظ خليفة في "تأهيل" نصّ إبراهيم بن عمر عنيدة،بإمكان إيّ مشاهد لمس هذا العناد المكابر ،وإدراك مدى قدرته على كسر حدّة النصّ وجبروته...إضاءة تهزّك ،ومشهديّة خلفيّة تؤرّقك ،وموسيقى قد تغمض عينيك وأنت تلج فيها وتلجك...

منصور ـ دليلة ـ جليلة والآخرون :

جمع المخرج في عمله هذا أسماء كبيرة...بعضها معروف وشهير بحكمين : التّاريخ والقدرة...وأحدها (منصور بن فرج) معروف وشهير بحكم تاريخ القدرة...لم أر منصور ودليلة بهذه الطّفوليّة الرّائعة وهذا الاستمتاع اللّذيذ بالعمل ،وهذه الطّاقة المربكة التي هزّت فضاء الرّكح ،وأدهشت المتفرّجين...

شكرا...جميعا

16‏/06‏/2009

فـي المـاء وزهـرِ الحـانِ البعيـد


جـرّحني الهمـسُ

بضحكـةِ نهـديْـكِ الـبـدويّيْنِ

وطـارتْ بين أنـاملِكِ الـورديّةِ عصفـورةُ طـلٍّ

لألأهـا السّكـرُ

وأفتـاني العشـقُ لـذيـذًا فـي اللّيـلِ

بـأنّ الحـبَّ وُصُـــولُ !،،،

وأنـا زورقُ مـاءٍ شيّـده الـوهـمُ

بثقــبٍ وطنــيٍّ !

خُـدِعَ الثّـاقبٌ بالهجـرةِ !

ويـراهـا ليـسَ تَـطُـولُ !!،،،

لكنّـيَ أدمنْـتُ البحـرَ

والهجـرةُ سيّـدتي طالـتْ !

بالـزّورقِ ذاك المثقـوبِ !

هنـــاك حُــلُـولُ ،،،

سيّـدتـي !

وحنِينِـي للـرّجفةِ بيـنَ الفَخِـذيْـنِ....فُضُـولُ ،،،

مينــائي...

سـرّتـكِ العـربيّةُ تلـكَ !

وغيـرُ السّـرّةِ تلـك...طُـلُـولُ ،،،

رَحْـبٌ هـذا العـالـم !

تـاللّـهِ لأرحـبُ مَـنْ فهِــمَ الـدّفّـةَ

والمـوجـةَ والأيّـامَ...

وتـرنّـحَ ميليْـنِ بخمــرٍ

زادتْهـا الحَيْـرةُ عتْقًـا !

أيـنَ الوجهـةُ ؟

قـال : أرَى !

والقلْـبُ دلِيــلُ ،،،،

يـا ابـنَ ثـلاثيـن خـريفًـا في المـاءِ !

أمـا أوحشــتَ البحـرَ ؟

ـ قليــلاً .

فـالأرضُ تَسلّمهـا الأوبـاشُ

وخـانَ البعـضُ

وخـافَ البعـضُ الآخـرُ

وارتـاحَ بمـربضِهِ الفِيــلُ ،،،

جـرّحنـي الهمـسُ

وصـرتُ رقيقًــا حـدَّ الـدّمـعِ !

ونهـداكِ لقـد سقَطَــا !!

مـا عــاد السّكـرُ يُـلألــئُ شيئـًا

أَتخُـون الخمـرةُ أيضًـا ؟

ـ إن كـان الشّـاربُ فَجُّــا !

ـ علّمْنِـي فـنَّ السّكـرِ !

فلسـتُ أُطيـقُ تخُـونُ الخمـرةُ

ـ لا تضَـعِ الخمـرةَ في رأسِـكَ

بـل رأسَـكَ فيهـا !

ومضـى يسعـلُ حُـزْنًـا

قلــتُ : تضـيء الحـانةُ شـوقًـا يـا سيّـدُ !

فـاشتعلـتْ روحُـهُ كـالتّبْـغِ

وأحنَـى يسعـلُ حـزْنًــا...

ويُتمتـمُ فـي خـارطـةٍ بيضـاءَ !

وجـاءتْ للقمـرةِ عـاصفةٌ فـأراهـا بـوصلـةً

ثـمّ دعـاهـا تنـامُ!

وشـربْنـا فـي الصّمـتِ كثيـرًا !

والنّهـدُ بِـلا لألأةٍ

ـ علّمْنِـي ألألئُـهُ !

قــال : تـرى خلـفَ المـاءِ

وخلـفَ الكلمـاتِ وخلـفَ الحـبِّ !

أَمطَـرت القمـرةُ عِشقًـا

أَمطـرَ قلبِـي أوراقًـا زرقـاءَ !

وأَومـضَ بـرقٌ فـي الـرّوحِ

وفي الـدّفّـةِ ...

وانتظـر المينـاءُ نجـيءُ ،،،

ورشّ النّـادلُ طـاولـةً بـالـزّهـرِ

وهـشّ الحـانُ فسـاتيـنَ وأفخـاذًا

مـن شـوقِ الـوَصْـلِ تُضـيءُ ،،،

واختبـأَ العَسَـسُ الـرّسمـيُّ بـأزرارِ النّـادلِ

خـوفَ مـؤامـرةٍ !

قِيـل : شيـوعـيٌّ وجَـرِيءُ ،،،

وقِيـلَ : نَبِـيءُ !،،،

وجـاء الفقـراءُ فقـد قيـل لهـم :

يشتـم رأسَ المـالِ كـذلـك !!

بـل قـالُـوا لا يشتــمُ إلاّ الـرّأسَ ..

فــإنّ المــالَ بــريءُ ،،،

لكنّــيَ أغمضْـتُ !

وأسلمْـتُ الـدّفّـةَ للسُّكــرِ !

وللبـرقِ الأتـي

منتشِيًـا بمكـاءِ الـرّيحِ

ونَـوْحِ اللجّـةِ فـي اللّيـلِ !

وتنـاقَـرَتِ الطّيْـرُ علـى أسطُـحِ قلبـي

والقلـبُ نُـدُوبُ ،،،

وانتظـر المينـاءُ نـؤُوبُ ،،،

والنّـادلُ فـضّ قنـانيَّ الخمـرةِ ثـانيـةً

وفـي الـرّكـنِ بكـتْ سيّـدةٌ

عيْنـاهـا مـن اليـأسِ غُـرُوبُ ،،،

لـم يبلـغْ هـذا العـاشـقُ سـنَّ الأرضِ !

وأنثـاهُ لقـد رحلـتْ !

والنّهـدُ بـلا لألأةٍ

ونَبيـذُكَ يـا هـذا مُـرِيـبُ ،،،

م.الخامس ـ جوان 2009

12‏/05‏/2009

زيارة إلى الشّيـخ إمـام : مَـوْلـى "الحـرافيش" ـ ج 3


خرجتُ ، ورغبة السهر تشتدّ بي ،، فالقاهرة مدينة لا تنام...وأنا أعشق ليلها ،وأهلها ، وضجيجها الرّائع...

ـ على فين يا باشا ؟

ـ إلى أيّ مكان أحتفل فيه بلقاء مع شخص ظللت أحلم به طويلا..

ـ يا بختو...ربّنا يخلّيكو البعض...سبني أختارلك حتّه على ذوقي !

كم يبدو قصيرا ليل القاهرة ! أنتِ أيّتها الجميلة المغتسلة بماء النّيل ! لكم تزهر روحي وتمتلئ رئتاي عشقا حين أمشي على أرصفتكِ العابقة بالأبخرة والشّذى...ولكم يهزّني صوت "السّت" منسابا من مقاهيك الدّافئة...كلّ شيء له طعم آخر في القاهرة...حتّى الأغاني الرّاقصة تمسي نغما من الفرح العذب...

لم أشعر بمرور الوقت...كانت السّاعة الخامسة صباحا حين دخلت الشقّة...لذلك كنت أشعر بضيق شديد وأنا أقف أمام باب بيت "مولانا" قريبا من منتصف النّهار...انتبهت إلى ما كتب على الباب : الشّيخ إمام عيسى الملحّن !

سمعت ضجّة بالدّاخل...لقد تأخّرت جدّا ، ويبدو أنّ لمولانا ضيوفا...تردّدت ثمّ قرعت الباب...

ـ أهلا ! إنت محمّد التّونسي ؟

ـ نعم ، يا آنسة.

ـ اتفضّل خالي مستنّيك من بدري !

والحقّ أنّ الفتاة جميلة جدّا...وعندما دخلت البهو ، كانت امرأة وفتاة أخرى تنظّفان المكان...اتّجهت نحو غرفة "مولانا"...وجدته مستلقيا على السّرير ، وعلى شفتيْه تلك الابتسامة السّاحرة...بادرني معاتبا وهو يضحك :

ـ كده يا واد ؟ ده أنا صحيت بدري عشانك

قاطعته :

ـ عذرا يا "مولانا" لم أستطع منع نفسي من السّهر...عندك ضيوف ؟

ـ دي أختي وبناتها ييجو كل يوم جمعة عشان يوضّبوا البيت...تعال اقعد !

تحدّثنا عن "الفنّ الملتزم" في تونس...وتحدّث "مولانا" عن أسماء بعينها ،،وأبدى اعجابه باسم بعينه...وأخبرني أنّ أحد هؤلاء قال له أثناء زيارته مع "نجم" إلى فرنسا أنّه يعرف "مسؤولا كبيرا" (في العهد السّابق) وأنّه سيكلّمه لإدخال "مولانا" إلى تونس...لكنّ "مولانا" رفض الفكرة بشدّة ، وأخبر هذا الفنّان بأنّه لن يقبل سوى دعوة الشّعب التّونسي...وقد تمّ ذلك لاحقا...

وأفضى إليّ "مولانا" بحرقة أنّ كثيرا من عائدات حفلاته في تونس بقيت عند أحدهم هناك ، على أساس أنّه سيتمّ تحويلها إلى دولارات وإرسالها إليه على حساب أحد الموظّفين في الجامعة العربيّة...ولم يصله ملّيم واحد !

شعرت بشيء من الضّيق ،حاولت أن أطرده يطلب أغنية...

ـ بس من غير عود يا محمّد...القلب تعبان والطّبيب مانعني...عاوز تسمع إيه ؟

ـ اللّي تحب يا مولانا .

وادْ يـا عبد الـودودْ

يا رابض عالحـدودْ

ومحافظ عاللّظام

كيفك يا واد ؟ صحيحْ ؟

عسى اللّه تكون مليحْ

وراقبْ للأمــامْ.....

وقـد عرفتُ أنّ هذه من أحبّ أغانيه إلى قلبه.....