22‏/11‏/2008

الأغنية الشّعبيّة ـ دراسة مقارنة ـ ليبيا وتونس نموذجا ـ ج 5

بلقاسم بوقنّه : فرادة الشّعريّ / حين العمق بلا فنّ
ما الذي دفع بلقاسم بوقنّه إلى الغناء ؟ وما الذي دفعه إلى الغناء بذلك الشّكل ؟
سؤالان لطالما طرحتهما على نفسي لفهم ظاهرة هذا البدويّ الهادئ المحتفظ بعبق الماضي البعيد ،اللاّهث وراء الشّعريّ المنبثّ في عالم الصّحراء السّاحر.
سؤالان أحسب أنّ بلقاسم لم يرغب يومًا في مواجهتهما ،ممّا أدّى إلى " تبسيط بريء " لمسألة الغناء والموسيقى في تجربته...ومن الغريب حقّا أنّه عند اقتفاء طفولته وشبابه لا نجد للغناء في حياته مكانًا ،ولذلك أنهى دراسته الثّانويّة دون أن يفكّر في الالتحاق بمعهد للموسيقى ،والأغرب أنّ عازفيْه على آلتيْ العود والأورغ يجهلان الموسيقى أيضا،وأقصد المعنى الأكاديميّ.
إذن ما الذي جعل بلقاسم بوقنّه ينجح في شدّ الأسماع على الأقلّ في مناطق الجنوب ؟
إنّه الشّعر !
شعر ينبض بلغة حالمة ، يحكي مجاهيل المكان وقسوته ،ويفيض بالحبّ خجولاً متنقّبًا أحيانا ،ومندفعًا شهيًّا فاضحًـا أحيانا أخرى...شعر كان صاحبه يلقيه إنشادًا وشدوًا في الأعراس الضّاجّة بالصّمت والاستماع والغرائز...شعر حين قدّمه بوقنّه فوجئ به ،واستعصى عليه تناوله موسيقيّا ،فتركه للإنشاد الذي كان عليه في الأصل.
وكان ذلك سينجح إنّما بشرطيْن لم يرد بلقاسم تحقيقهما أبدا :
ـ أن يبحث عن معالجة موسيقيّة جدّيّة لما بين يديْه من شعر عظيم ومميّز ،فيطوّر تجربته ويوسّعها بالاستعانة برؤًى واشتغالات أخرى لموسيقيّين آخرين.
ـ أو أن يتوقّف (وأزعم أنّ الوقت فات) فلا يكرّر نماذجه اللّحنيّة الرّتيبة التي سيرتطم بها غناؤه ذات يوم أكيد.
وهو ما رفضه بلقاسم ،ليحتفظ لنفسه ولمستمعيه بصورة فنّان محتشم عصاميّ مكتفٍ بذاته بعيد عن بهرج النّجوم في عالم الفنّ ،وهي صورة قد " تسوّقه " برهة من الزّمن ليضيع بعد ذلك شعر عظيم ،وصوت جميل.

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

شكرا على هذه المقاربة لضاهرة بوقنة الغنائية و إني أتفق تماما معك لما توصلت إليه في خاتمة مقالك، مهما كانت المسألة معقدة و تتداخل فيها عدة عوامل. فبوقنة رفض عملية التجاوز لعملية "دفع" أي آداء الشعر الشعبي إلى ما أبعد من الأيقاع بالدربوكة و المصاحبة باعود و الأورغن و هذا الرفض هو في الواقع إذعان بحالة العجز عن التجاوز لافتقاره المعرفي و التقني بآليات الفهم ثم التجديد الموسيقي، فهو لا يغدو أن يكون أكثر من مردد لما كان يُغنى في سهرات المحفل و حرارتها بزغردة الحفـَّالات، دون أن يحصل له شرف المحفل. فهو أمام محفل جديد اختلطت فيه الأشياء حابلها بنابلها غثها و شمينها، و لم يعُد للذائقة معاير صحيحة يُعتمد عليها. و لعل بوقنة توصَّل إلى الزقاق الحاد و فضَّل أن يبقى على "عقيدة العجائز" و يتجاهل مغامرة القفز في المجهول دون الشبكة الواقية، لذلك لم يعد بإمكانه تجديد ترنيماته أو بالأحرى ترنيمات القدامى من الطويل لبن قطنش لبوخف لشريك لبالقاسم بوخشم و غيرهم....
و في الأخير الوقوف على هذه الخاتمة في اعتقادي شيئ محزن حقّا، لما يحمل في طياته من إقرار الفشل حتى و إن توفر "النجاح"التجاري من مبيعات الأشرطة و الأقراص المضغوطة

غير معرف يقول...

شكرا على المرور سي علي وعلى مقاسمتي القراءة